إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 7 مارس 2015

النسب شروق


تعريف النَّسب، ونبذة تاريخية عن موضوعِ النَّسب بشكل عام:

الحكمة من مشروعيةِ الزَّواج:

لقد شرع اللهُ الزَّواج من أجلِ مجموعة من الحكم؛ ومن هذه الحكم:

أولاًلأنَّ الزَّواج هو الوسيلةُ الوحيدة لبقاء النَّوعِ الإنساني إلى الأجل الذي كتبه الله لهذه الدنيا[11]

 

ثانيًالأنه بالزَّواج قيام الأسرة على أساسٍ سليم؛ حيث تتكوَّن من الزَّواج أسرةٌ متحابة مترابطة ومتماسكة.

 

ثالثًالأنه بالزَّواج يتحقَّق الاستعفاف وتحقيق راحة لكلٍّ من الزَّوج والزوجة، من خلالِ إشباع غرائزهم بما أباحه الله - تعالى[12]

 

رابعًالأنه بالزَّواج تنشأ الروابطُ والعلاقات الاجتماعية الإنسانية، وتصبح العَلاقةُ وثيقة بين الزَّوجين.

 

خامسًالأنَّ الله خلق لنا من أنفسنا أزواجًا لنسكنَ إليها، ومن أجل تربية النفوس وتكوين نوعٍ من الأمن والاستقرار عند الإنسان[13]

 

سادسًاإنه بالزَّواج تتحقق مقاصد الشَّريعةِ الإسلامية، التي حثَّ الشَّرعُ على الحفاظِ عليها؛ حيث إنَّ الزَّواج فيه حفاظ على النفس من جهة، والنَّسلِ من جهةٍ أخرى، وهذا هو مدارُ بحثنا - إن شاء الله تعالى - من خلالِ بيان طرقِ إثبات النَّسب وما يتعلَّق به من أمور عديدة.

 

المطلب الثالث: بيان أهم الأسباب التي شرعها الله من أجل الحفاظ على النَّسب وحمايته.

تعريف النَّسب؛ لغةً واصطلاحًا:

النَّسب لغة: يقال: نَسب الشيء: إذا وضعه، وذكر نَسبه؛ أي: عزاه إليه، وناسبَ فلانًا: إذا شاركه وشاكله، ويقال: تناسب الشيئان: إذا تشاكلا، واستنسب فلانًا: سأله أن يذكرَ نسبه، والتناسب: التشابه [14]، والنَّسب: القرابة، ويقال النَّسب؛ أي: الصلة، وانتسب إلى أبيه؛ أي: التحق به، ورجل نسيب؛ أي: شريف معروف جنسه.[15]

 

ويقال: النَّسَّاب والنَّسَّابة: وهو العالم بالأنساب، وناسب الشيء؛ أي: وافق مزاجه ولاءمه.[16]

 

النَّسب اصطلاحًا:

وله عدة تعريفات نذكر منها:

"إنَّه علاقةُ الدم، أو رباط السلالة أو النوع الذي يربطُ الإنسانَ بأصولِه وفروعه وحواشيه".[17]

 

وقيل: "إنه رابطة سامية، وصلة عظيمة على جانبٍ كبير من الخطورةِ، تولاَّها الله بشريعتِه، وأعطاها المزيد من عنايتِه، وأحاطها بسياجٍ منيع يحميها من الفسادِ والاضطراب، فأرسى قواعدَها على أسسٍ سليمة".[18]

 

نبذة عن تاريخ النَّسب:

لقد كان النَّسب عند بعضِ الأقوام أمرًا غير ذي بالٍ، فلم يكن يُهتم كثيرًا بنسبةِ الولد إلى أبيه؛ إذ كان يكفي نسبته إلى القبيلة؛ حيث إنَّ بعضَ الأسر لا ترى تخصيص المرأة لرجل، ولا تخصيص الرجل بامرأةٍ إذا كانوا إخوة ولكلٍّ زوجة، كما كان يرى بعضُهم نسبة الولد للأم لا تنسبه للأب.[19]

 

ولهذا لم يكن من عَلاقةٍ ما بين الوالد والأبناء، أو بعبارة أصح بين المستولد والأبناء في المجتمعِ البدائي؛ إذ كان الجنسان يعيشان منفصلين في عددٍ كبير من القبائل.

 

لذا فإنَّ من الحقوقِ الهامة التي أثبتتها الشريعةُ الإسلامية للولد وللوالدين الحق في ثبوتِ النَّسب، فهو حقٌّ للولدِ أولاً قبل كلِّ شيء، وقد حرص الإسلامُ على تقريرِ هذا الحقِّ وإثباته، وتأكيد وجوده بالنِّسبة لهذا الولد، وقد كان لهذا أثر عظيم في حمايةِ المجتمع الإسلامي وتماسكه والحفاظ على قوته.[20]

 

لذا فإنَّ الإسلامَ حرص على ثبوت النَّسب، وهذا من خلالِ الحفاظ على الأسرة؛ لأنَّ الأسرةَ هي اللبنة الأولى في بناءِ المجتمع؛ حيث إذا صَلَحت صلح المجتمعُ وإذا فسدت فسد المجتمعُ، ولا تصلح الأسرةُ ولا تحقِّقُ الهدفَ المنشود منها إلا إذا برزت إلى حيز الوجود عن طريقِ الزَّواج الصحيح، وبهذا الزَّواج يكون النَّسب.[21]

 

ولهذا فقد شرع الله الزَّواجَ لغاياتٍ سامية، وأول هذه الغايات بقاء النوع الإنساني عن طريقٍ شرعي، وعلى أكمل وجه، كما جاء في الشريعةِ الإسلامية.[22]

 

أسباب النَّسب:

قلنا: لقد شرع الله الزَّواجَ من أجلِ الحفاظ على الأسرةِ والحفاظ على النَّسب، وقبل بيان طرق إثبات النَّسب لا بدَّ لنا من ذكرِ أسبابه أيضًا لمعرفةِ طرق النَّسب بشكلٍ يستطيعُ كل شخصٍ قادر على فهمه واستيعابه بشكلٍ صحيح، ومن هذه الطرق:

أولاً: الزَّواج الصحيح:

إنَّ سببَ ثبوت النَّسب في الزَّواجِ الصحيح كون المرأة فراشًا وذلك باتفاق الفقهاء[23]، حتى يكون النَّسبُ صحيحًا في الزَّواج الصحيح لا بد أن يكونَ محلُّ الزوجةِ من زوجها ممكنًا، وأن تأتي الزوجةُ بولدٍ لا يقلُّ عن ستةِ أشهر من يومِ العقد عليها، وألاَّ تأتي بالولدِ بعد أقصى مدة للحملِ من يوم الطَّلاق، وألاَّ ينفي الزوجُ هذا النَّسب بطريقِ اللِّعان.[24]

 

ثانيًا: الزَّواج الفاسد:

وسبب ثبوت النَّسب في الزَّواج الفاسد كون المرأة فراشًا، ولا تكونُ فراشًا في هذا الزَّواجِ إلا بالدُّخولِ، خلافًا للزيدية الذين يقولون بأنَّها تكونُ فراشًا بإمكانِ الوطء.

 

ثالثًا: الاتصال الجنسي بناء على ملك اليمين:

أي: إذا تلاقى سيدٌ مع أمَتِه، ثم جاءت بولدٍ لا يحل للزوجِ شرعًا أن ينفيَه، فالواجب عليه أن يقر بنسبه

 

رابعًا: الاتصال الجنسي بناء على شبهة: حيث إنَّ الشبهةَ نوعان؛ حيث إذا وُجِدَت مثل هذه الشبهة، فلا يجوز إنكار النَّسب.

 

 

طرق إثبات النَّسب العامة والخاصة

لقد تنوَّعت عباراتُ العلماء في التكلُّمِ عن طرقِ إثبات النَّسب، أو كما يسميه البعضُ بالأدلةِ العامة والخاصة لثبوت النَّسب، وبما أنَّ بحثي هذا يهتم بهذا الموضوعِ بشكلٍ كبير، فقد سرت في بيانِ طرق إثبات النَّسب كما يلي:

 

المبحث الثاني: طرق إثبات النَّسب العامة ويشمل:

المطلب الأول: الإقرار.

الإقرار: الإقرار بالنَّسب هو ما يسميه الفقهاءُ بالدَّعوة؛ أي: إنه يثبت عن طريقِ الاعتراف الشخصي بنفسِه وادعائه، تسمى دعوة لهذا السبب[26]، وقد قال الفقهاءُ: إنَّ الإقرارَ حجة قاصرة، ومعنى ذلك أن أثرَ الإقرار لا يتجاوزُ المقر من أحكامٍ، ولهذا كان للإقرارِ آثارُه على المقر فقط دون غيره.[27]

 

والإقرار نوعان:

أولاً: الإقرار المباشر:

وهو بأن يقرَّ بأن فلانًا ابنه أو هذه ابنته، فتثبت البنوةُ للمقر، ويترتب على هذا الإقرارِ كلُّ الحقوقِ والالتزامات التي للبنوة والأبوة؛ لأنَّ الأبوة والبنوة أمران متلازمان لا يمكنُ أن يوجدَ أحدهما دون الآخر، فهما إما يثبتا جميعًا، أو لا يثبتا؛ حيث إذا أقرَّ الرجلُ بابنٍ جاز إقراره، ويُحْصَر به صغيرًا أو كبيرًا، أنكر الابن أو أقر.[28]

 

الإقرار المباشر، شروطه:

يشترط في الإقرارِ المباشر للنسبِ عدةُ شروط، ومن أهمها:

1- أن يكون المقرُّ بالغًا عاقلاً مختارًا، فلا عبرة في إقرارِ الصبي والمجنون والمكره؛ لعدم الأهلية والرِّضا.[29]

2- أن يكون المُقَرُّ له مجهولَ النَّسب، بألاَّ يكون معروف النَّسب من أبٍ غير المقر، وإلا حُكِم ببطلانِه؛ لأنَّ الشرع قد قضى بثبوتِ النَّسب من ذلك الأب، فلا يصحُّ الانتقال عن ذلك؛ حيث لا يُعقل أن يكون لشخص واحد أبوان.[30]

 

3- أن تكون الأبوةُ أو البُنُوة يُصدِّقها الحسُّ، ويشهد لها الواقع، بأن يكون المقَرُّ به ممن يولد لذلك المقِرِّ، وفي حال تسمح بأن يكون ابنًا له، فإنْ كان فارقُ السن بينهما عشر سنين فقط، لم تصح دعوى الإقرار؛ لأنَّ الحس والواقع يكذبه.[31]

 

4- ألا يكون كاذبًا في إقرارِه، فإن تبين كذبُه، كأن يكون المُقِرُّ والمُقَرُّ له من بلدين مختلفين، لا يُعلم أنَّ المقِرَّ خَلْفَها، أو تقوم بَيِّنَة على أنَّ الأم لم تزل زوجة بغيرِه حتى ماتت، ففي هذه الصورة لا يلتفت لهذا الاستلحاق لظهورِ كذبه، أمَّا إذا كان قد دخل بلدة المقَرِّ له، فإنَّ استلحاقه صحيح ويلحق به الولد.[32]

 

5- ألاَّ يصرح بأنَّ المقر له ابنه من الزِّنا أو بطريقةِ التبني؛ لأنَّ الزِّنا فاسد ولا يثبت إليه ما تخلف منه، ولا يترتبُ عليه أي أثرٍ من آثارِ البنوة، فمن زنى بالمرأةِ فإنَّ له أن يتزوجَ بأصولها وفروعها ولأبيه وابنه؛ حيث كان عمر - رضي الله عنه - ينيط أولاد الجاهلية بمن استحقَّهم إذا لم يكن هناك فراش؛ لأنَّ أكثر فعل الجاهلية كان كذلك، أمَّا بعد انتشار الإسلام ووضوح أحكامه فلا يُلحقُ ولد الزِّنا بمدعيه عند أحدٍ من العلماء، كان هناك فراش أو لا.[33]

 

6- أن يكون المقِرُّ حيًّا؛ إذ الإقرار ربَّما استهدف المال، وهو لا يثبت بالدعوى.[34]

 

هذا بشكلٍ عام عن بعض الشروط التي تُشترط في الإقرار المباشر؛ لذا إنْ دلَّ هذا على شيء، فإنه يدلُّ على مدى رعاية الإسلام للحفاظِ على النَّسب؛ حيث جعله الله - تعالى - من مقاصدِ الشريعة الإسلامية التي أوجب علينا اللهُ - تعالى - الحفاظَ عليها من جانبِ العدم وجانب الوجود، ويدلُّ أيضًا على مدى مراعاة الشريعة لأحكامِ الأسرة بشكلٍ عام، وأحكام الزوجين بشكلٍ خاص.

 

الإقرار غير المباشر:

الإقرارُ بالنَّسب غير المباشر له صورٌ شتى، وكلها لا تفيد النَّسب؛ لأنه إقرار يتعدَّى إلى الغيرِ وهو لا يجوز؛ حيث إنَّ الإقرار بالنَّسب غير المباشر إمَّا أن يكون المقر وارثًا أو غير وارث، وإمَّا أن يكون واحدًا أو أكثر، فإذا كان قد أقرَّ اثنان بنسب ثالث من مورثهما، بأن كانا ابنين أو أخوين أو عمين، وكانا مستوفين لشروطِ الشَّهادة، فإنَّ النَّسب ينتسب بشهادتِهما، أمَّا إذا أقرَّ به واحدٌ من الورثةِ؛ بأن أقرَّ أخ بأخ ثالث وأنكره الأخ الثاني، فقد ذهب أئمةُ المذهب المالكي بهذا طريقين.

 

أولاً: إن كان الأخ المقر عدلاً حلف معه المقر به، وورث الثلث من غير أن يثبتَ نسبه، وله أن يتزوجَ بأمِّ الميت وأخته.

 

ثانيًا: وهو المعتمد أنه لا يشترط في المقرِّ أن يكون عدلاً، فيستوي المعدَّل وغير المعدَّل، ولا يمين على المقر به، لكنَّه يشترط أن يكون المقر رشيدًا.[35]

 

والواقع أنَّ هذا الإقرار لا يثبتُ به نسب؛ لأنه لا يملك إنسانٌ أن يلحقَ نسبَ شخصٍ لآخر بمجرد التلفظ، بل إنه لا أثر لهذا الإقرار حتى ولو صدَّقه المقر له؛ ذلك أنَّ تصديق المقر له لا يثبت به النَّسب من المقر عليه؛ لأنه قد يكون للمقر له مصلحةٌ في هذا التصديقِ، فهو إذن منهم يجلب النفع لنفسه.

 

مع أنَّ لهذا النوع من الإقرارِ بعض الآثار غير ثبوت النَّسب، وهذا ليس موضوعنا.[36]

 

المطلب الثاني: البينة:

تُعَدُّ البينةُ من الطُّرقِ والأدلة العامة في النَّسب وفي غيره، وهي مأخوذة من البيانِ والوضوح، ويقال: استبان الصبح: وضح، وهو على بينةٍ من أمرِه؛ أي: على وضوحٍ وعدم خفاء.[37]

 

والبينة عبارة عن شهادةِ شاهدين؛ رجلين، أو رجل وامرأتين[38]، أنَّ هذا الولد هو ابنُ فلان، وأنه وُلد على فراشِه من زوجتِه أو أمَتِه، وهذا القول عند أبي حنيفة ومحمد، أمَّا شهادة رجلين فقط عند المالكيةِ، وجميع الورثة عند الشَّافعية والحنابلة وأبي يوسف؛ حيث إنَّ الشَّهادة تكون لمعاينةِ المشهود به أو سماعه.[39]

 

وقد اتفق الأئمَّةُ الأربعة على جوازِ إثبات النَّسب بالتَّسامح كما في الزَّواجِ والزفاف والرضاع؛ لأنَّ هذه الأمور لا يطَّلعُ عليها إلا الخواص، فإذا لم تقبل فيها الشهادةُ بالتسامح، أدَّى ذلك إلى حرجٍ وتعطيل الأحكامِ المترتبة عليها من إرثٍ وحرمة زواج.[40]

 

وإنَّ للبينة في إثباتِ النَّسب أهمية بالغة؛ إذ إنَّ السببَ الأول الذي يثبت به النَّسبُ، وهو فراش الزوجية، هو في حقيقتِه محدود الأثر؛ حيث لا يثبتُ به إلا نسب الولد، أمَّا غير الولد مثل الأخ أو العم، فلا يثبت نسبته بداهة عن هذا الطَّريق، والسبب الثاني وهو الإقرار، هو حجةٌ قاصرةٌ بمعنى أنَّ أثرَه مقصورٌ على صاحبِه الذي أقرَّ به، بل إنَّ الإقرارَ في هذا المجالِ قد لا يكفي بذاتِه لإثبات كثيرٍ من حالاتِ النَّسب، وهكذا تظهرُ حتميةُ البينة في كثيرٍ من حالات النَّسب، والبينة المقصودة هنا كما أشرنا شهادة الشهود العدول.[41]

 

أمَّا ما يتعلَّقُ في نصابِ الشهادة؛ أي: عدد الشهود العدول الذي يثبت فيه النَّسب؛ حيث بيَّنا فيما سبق آراءَ العلماء في ذلك، فلقد حثَّ الشرعُ الإسلامي الحنيف بتشوق دائمًا إلى إثباتِ النَّسب؛ محافظةً على الولدِ أولاً، وعلى الوالدة وعلى المجتمعِ، سمعة وشرفًا وكرامة وحفظًا.

 

لذلك فإني أرجحُ مذهبَ الحنفية القائل بأنَّ النَّسب يثبتُ بشهادةِ رجلين أو رجل وامرأتين تتوافَرُ فيهم شروطُ الشهادة، وأهمها العدالة، وذلك لأنَّه في الأخذِ بهذا المذهب تيسيرًا وتوسعة لدائرةِ النَّسب الثابت التي يتشوقُ الشرعُ الإسلامي إلى توسيعِها دائمًا.[42]

 

وفي ذلك كما قال الحنفيةُ أنَّه لو تنازع شخصانِ أحدهما مسلمٌ والآخر غير مسلم نسبَ ولدٍ، فادَّعى المسلمُ أنَّ هذا الولد هو عبدُه، وادَّعى غير المسلم أنَّه ابنه، وأقام كلٌّ منهما البينةَ على دعواه، يُقضى به لغيرِ المسلم، ويكون حرًّا؛ لأنَّ شرفَ الحرية لا يقدر بثمنٍ، وفي هذا يرتفعُ الإسلام بتكريمِ الإنسان إلى أعلى مراتب التحرر الفكري والوجداني، مما لا تصلُ إليه أرقى الدولِ المعاصرة في وقتنا الحاضر.[43]

 

وقد أجمعَ علماءُ الحنفية على أنه يُقضى في النَّسبِ بشهادةِ الواحد عند قيام النكاح، وأنَّه يثبت تعيين الولدِ بهذه الشهادة والنَّسب بقيامِ المقرين.

 

وكما يرى أبو حنيفة أيضًا أنَّ المعتدة إذا ولدت لا يثبتُ نسبُ ولدِها إلا أن يشهدَ بولادتها رجلان أو رجل وامرأتان، إلا أن يكون هناك حبل ظاهر، أو اعتراف من قِبلِ الزوج، وفي هذه الحالةِ يثبت النَّسبُ من غيرِ شهادة، وقال أبو يوسف ومحمد أنَّه يثبت شهادة امرأة واحدة، ووجه قولهما أنَّ الفراشَ قائم بقيامِ العدة، والفراش ملزم للنسبِ، والحاجة إلى شهادةِ المرأة لتعْيين الولد، فيتعين بشهادتِها على الولادة.[44]

 

ووجه أبي حنيفة أنَّ العدةَ تنقضي بإقرارِها بوضع الحمل، فصارت أجنبيةً، والفراش المنقضي ليس بحجةٍ ليصلحَ مؤيدًا للحجةِ الضعيفة؛ أي: شهادة المرأة الواحدة، فكانت الحاجة ماسة إلى إثباتِ النَّسب ابتداءً، وذلك بكمالِ النصاب على ولادتِها المتصلة بفراشها المستلزمة لثبوت النَّسب؛ لكونها في وقتٍ يلزم منه ثبوت النَّسب شرعًا بخلافِ ما إذا كان الحبلُ ظاهرًا قبل دعواها، أو صدر الاعتراف به من الزَّوجِ، أو كان الفراشُ قائمًا وقت دعواها الولادة؛ لأنَّ النَّسب ثابتٌ قبل الولادةِ لما في البطنِ، وقيام الحمل ظاهرًا أو اعترافًا.[45]

 

ولهما في ذلك قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((شهادة النِّساء جائزة فيما لا يستطعُ الرِّجال النظر إليه)).[46]

 

وهناك حديثٌ عن الرَّسولِ - عليه السَّلام - أنه قبل شهادةَ القابلة، بشكلٍ عام في مواضع متعلقة بطرقِ إثبات النَّسب عن طريق البينة.

 

أمَّا ما يتعلَّقُ بعلماءِ الشَّافعية، فيرون أنَّ البينة في الولادة والنَّسب لا تكون إلا بأربعِ نسوة.[47]

 

وقال الحنابلة: إنه يحقُّ أن تكون البينةُ في هذا بشهادةِ امرأةٍ واحدة؛ حيث يقولُ ابن قدامة: "لا نعلم بين أهلِ العلم خلافًا في قبولِ شهادة النِّساء المنفردات في الجملة".

 

وقال القاضي: "والذي تقبل فيه شهادتهنَّ منفردات خمسة أشياء: الولادة، والاستحلال، والرضاع، والعُيوب تحت الثياب عامة كالرتق، والقرن، والبكارة، والثيابة، والبرص، وانقضاء العدَّة"، وكل موضعٍ تقبل فيه شهادةُ النساء منفردات، فإنَّها تقبل شهادة المرأة الواحدة.

 

وقال عطاء والشعبي وأبو ثور أنَّه لا تقبل فيه إلا شهادة أربع نساء، ولأنَّ الرَّسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((شهادة امرأتين بشهادةِ رجل))[48].

 

وفي نهايةِ كلامنا عن البيِّنةِ كطريقةٍ لإثبات النَّسب، فإنَّ الكلام عنها طويل؛ حيث إنَّ البينةَ المطلوبة لإثباتِ النَّسب لا تكون إلا عند التنازعِ؛ حتى يستطيعَ القاضي أن يثبتَ بها النَّسب لمدعيه، وعند تعارضِ البيانات لا بد من تقديمِ الأقوى بينها، هذا يدلُّ على مدى اهتمامِ الإسلام بالحقائقِ على النَّسب، ومدى وضع الأسس والمرتكزات الهامَّة التي من شأنها أن تؤدي إلى الحفاظِ على النَّسب.

 

المطلب الثالث: القرعة.

والقرعة مشتقة من القرعِ، وهو ضربُ شيء بشيء، وكانوا إذا خلطوا السِّهامَ ونحوها التي تستعملُ في القرعة، قرع بعضُهم بعضًا، ثم استعمل النَّاسُ القرعةَ بقطعِ رقاع صغيرة مستوية على عدد المقترعين، ويكتبُ في كلِّ رقعةٍ إشارةٌ خاصة متفق عليها، أو أسماء المقترعين، وتوضع في وعاءٍ، أو في صندوق، ثم يُدخِل أحدُهم يدَه ويخرج واحدةً منها، وهكذا، فمن خرج سهمُه أصبحت القرعةُ له أو عليه.[49]

 

وقد ورد في هذا الدَّليلِ واتِّخاذه في إثباتِ النَّسب حديثٌ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد روى أبو داود والنسائي في سننِهما من حديثِ عبدالله ابن الخليل، عن زيد بن أرقم، قال: "كنتُ جالسًا عند النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فجاء رجلٌ من أهلِ اليمن، فقال: إنَّ ثلاثةَ نفر من أهلِ اليمن أتَوا عليًّا يختصمون إليه في ولدٍ، فقرع عليٌّ بينهما، فقرع لأحدِهما الولد وعليه لصاحبِه ثلثا الدية، فضحك رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى بدتْ أضراسُه ونواجذُه".[50]

 

وقد جاء ذكرُ القرعة في القرآنِ الكريم في موضعين: الموضع الأول: في قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44].

 

الموضع الثاني: في شأنِ يونس - عليه السَّلام - قال تعالى: ﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات: 141].

 

وقد جاءت القرعةُ في شرعِنا في ثلاثة مواطن:

أولاًكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا أراد سفرًا أقرعَ بين نسائه، فأيهنَّ خرجَ سهمُها خرج بها، وهذا الموضوعُ لا يرى مالكٌ الأخذَ به.[51]

 

وخالفه ابنُ العربي، وحكى خلافًا بين علماءِ المالكية في القرعةِ بين الزَّوجات عند الغزو على قولين، والصحيحُ الاقتراع.[52]

 

ثانيًاأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رُفع إليه أنَّ رجلاً كان له ستة أعبُد، فأعتقهم عند موته، ولم يكن له مال غيرهم، فرفع ذلك إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكرهه، وجزَّأهم ثلاثةَ أجزاء، فأقرع بينهم، فأعتقَ اثنين، وأرقَّ أربعة.

 

ثالثًاأنَّ رجلين اختصما إليه في مواريث درست، فقال: ((اذهبا وتوخيا الحق، واستهما، وليحلل كلُّ واحدٍ منكما صاحبَه)).

 

وقد أخذ الإمامُ مالك والشافعي وأحمد بالقرعةِ، وهو قولُ الجمهورِ في اعتمادِ القرعة في الشيء الذي وقع فيه التداعي، إذا تساوت البينتان واحتيج لطريق بعد انسداد الطرق الشرعية.

 

وخالف في الأخذِ بالقرعة الإمامُ أبو حنيفة، وكذلك الهادوية من الشيعة.[53]

 

المطلب الرابع: حكم القاضي:

وهذا أيضًا دليل من الأدلةِ التي يشتركُ فيها النَّسب وغيره، وحكمُ القاضي أو قضاؤه يرفع الخلافَ ويفصل في القضية، إلا أنَّ القضايا ينكشفُ أمرُها من حيث النَّفاذ أو النقض.

 

ولأنَّ الضرورةَ توجب القولَ بلزومِ القضاء المبني على الاجتهادِ، ولا يجوزُ نقضه؛ لأنه لو جاز نقضُه برفعِه إلى قاضٍ آخر، فإنه يؤدي إلى اندفاعِ الخصومة واستمرارها، وحُكْم القاضي عند الحنفيةِ نافذٌ في كلِّ مسألة مُجْتَهَد فيها، فلا يردُّ ولا ينقض، وهذا هو رأي المالكية أيضًا؛ حيث يقول الدردير في شرحِه الصغير: "ولا يتعقبُ حكم العدلِ العالم؛ أي: لا ينظر فيه من تولى جحده".

 

أمَّا الظاهرية فقد أنكروا القياسَ والاستحسان في اجتهادِ القاضي، وكذلك الشيعة الإباضية.[54]

 

ومن خلالِ هذا الدليل فإني أرى أنَّ حكمَ القاضي يجبُ الأخذ به، وذلك لأنَّ القاضي لا يمكنُ أن يعلم إلا بعد أن يكونَ على بصيرةٍ عالية من العلمِ والتأكدِ أنَّ هذا هو نسبُ فلان إلى فلان، وعليه فيجبُ الأخذُ بحكم القاضي، أمَّا إذا كان قد ثبتَ بطرقٍ أخرى أقوى من حكمِ القاضي، فهنا يُستأنسُ بحكمِه ويؤخذ به حسب ما وجد من خلالِ هذه الدَّلائل.

 

المطلب الخامس: الاستفاضة:

وهذا دليلٌ خامس من الأدلةِ العامة التي تستعملُ في إثباتِ النَّسب، ويُطلق عليها السَّماع، وهي أن يشهدَ جمعٌ يُؤمن تواطؤهم على الكذبِ بأنَّهم سمعوا أنَّ فلانًا ابنُ فلانٍ، وأنَّ هذا النَّسب مستفيضٌ بين النَّاسِ؛ أي: منتشر.

 

ويرى الحنفيةُ قبولَ الشهادة بالاستفاضة أو السماع في النَّسب؛ حيث يقولُ الكاساني في شروطِ الشَّهادةِ: أن يكون التحملُ بمعاينةِ المشهود به بنفسِه لا بغيره، إلا في أشياء مخصوصة يصحُّ التحملُ فيها والتسامح من النَّاس؛ حيث لا تطلقُ الشهادة في التسامحِ إلا في أشياء مخصوصة، وهي: النِّكاح، والنَّسب، والموت، ويأتي التسامحُ من رجلين أو رجل وامرأتين.[55]

 

ولا يشترطُ المالكية عددًا في شهادةِ السماع، بل يجيزونها بشهادةِ عدلين، وقد عُلم أنَّ بينةَ السماع إنما جازت للضرورةِ؛ لأنها على الأصل؛ إذ إنَّ الأصلَ ألا يشهدَ الإنسانُ إلاَّ على ما سمع، أمَّا الشَّهادةُ من خلال السماع هذه للضرورة.[56]

 

وذكر الشافعي والأصحاب في صفةِ التسامع أنه ينبغي أن يسمعَ الشَّاهدُ المشهودَ بنسبه، فينسب إلى ذلك جواز الاستشهادِ بالسَّماعِ، واشترطوا العددَ في شهادةِ السَّماع أو الاستفاضة بالنَّسبةِ للنَّسب.[57]

 



لمبحث الثالث: طرق إثبات النَّسب الخاصة؛ وهي الأدلة التي لا تستعملُ في غير النَّسب، وتشمل:

 

المطلب الأول: الفراش.

قيل: إنَّ معنى الفراش اسمٌ للزوجة، وقد يُعبر به عن حالةِ الافتراش، وقيل: إنه اسم للزَّوجِ، وقيل: زوجة الرجل، وقد وردت أحاديثُ في الافتراشِ؛ منها حديثُ أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الولد للفراشِ، وللعاهر الحجر))[58]؛ أي: إنَّ الولد يلحقُ في الفراش، وقد قال أبو حنيفة: إنَّ الفراشَ يثبت بمجردِ العقد، وإنَّ مجردَ الظنية كافية فيثبت نسبه.

 

والرَّاجحُ عند المالكيةِ أنَّ الفراشَ يحدث بالعقدِ وحدَه، فقد عرَّفه الدردير في شرحِه الصغير أنه في عرفِ الشرع "عقدٌ لحلِّ تمتُّعٍ".[59]

 

أمَّا الشَّافعيةُ فيرون أنَّ الفراش في النِّكاحِ يكون بالعقدِ، أو إمكان الوطء، وفي فراشِ الأمَةِ بالوطء، ولا يكون بمجردِ الملك عندهم أو بالوطء، وهي في ملكِ غيره.[60]

 

أمَّا الحنابلةُ فيرون أنَّ فراشَ المرأة في النِّكاحِ إنما يكون بالعقدِ وإمكان الوطء، وفراش الأمَة بالاسْتيلاء.[61]

 

وحكم الفراشِ ثبوتُ النَّسب من صاحبِه، وهو الزوج، دون حاجةٍ إلى إقرارٍ أو بينة، والعلةُ في ثبوتِ النَّسب بالفراشِ دون توقفٍ على إقرارِ أو بينة أنَّ عقدَ الزَّواج يقتضي اختصاص الزوجةِ بزوجِها، فهو له وحده وليس لغيره، وأن يستمتع بها، ونتيجة هذا أنه إن جاءت بولدٍ فهو من زوجِها، والأصلُ فيما تقدَّم قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الولد للفراشِ، وللعاهر الحجر)).

 

ويبنى ثبوت النَّسب بالفراش على أصول ثلاثة، وهي:

1- إمكان الحملِ للزَّوجة من زوجها، فلو كان الزَّوجُ صغيرًا بحيثُ لا يتصور أن تحملَ منه زوجتُه؛ لكونه دون البلوغِ والمراهقةِ، لا تعتبر زوجيته فراشًا يثبت به النَّسبُ باتِّفاقِ العلماء.[62]

 

2- ألا تأتي به الزوجةُ لأقل من ستةِ أشهر من وقتِ العقد في النكاح الصحيح، وذلك لأنَّ أقلَّ مدةِ حمل باتفاق الفقهاء هي ستة أشهر.

 

3- ألاَّ تأتي به لأكثر من عامين من وقتِ العقد في النِّكاح الصحيح؛ لأنَّ أقصى مدة حمل هي سنتان، كما قال الحنفية، وعند الجعفرية ألا تأتي به لأكثر من تسعةِ أشهر، أو عشرة، أو سنة من حين الوطء، في كلٍّ من النِّكاحِ الصحيح والفاسد.

 

وذهب المالكيةُ إلى أنَّ أكثر مدة حمل هي خمس سنين، وقال الشَّافعيةُ أربع سنين، وهو قولٌ آخر للمالكية.[63]

 

هذا بشكلٍ عام بعضُ الأحكامِ المتعلِّقة بثبوت النَّسب بالأدلةِ الخاصَّة، وعن طريق الفراش؛ لذا فبعد بيانِ هذه الطريقة الخاصة التي لا تستعمل إلا في إثباتِ النَّسب يتضحُ لنا مدى اهتمامِ الفقهاء بقضايا النَّسب، وما يتعلَّق به من أحكام.

 

المطلب الثاني: القيافة:

وهي من القافة، والقائفُ: من يعرفُ الآثار، وقيل: قاف أثرَه إذا تبعَهُ، واقتاف أثرَه؛ أي: تبعَه، والقافُ من الحروفِ الهجائية.[64]

 

والقيافة عند الفقهاءِ هي إلحاق الولد بأصولِه؛ لوجودِ الشبه بينه وبينهم، والقيافة عند الفقهاء مخصوصة بمعرفةِ النَّسب عند الاشتباه.

 

وقد تفاوتتْ آراءُ الفقهاءِ في الاعتماد على القيافةِ في إثبات النَّسب، ولهم في ذلك قولان:

• فقد ذهب جمهورُ الفقهاءِ من المالكية والشافعية والحنابلة أنَّ العملَ بالقيافةِ شروعٌ في ثبوتِ النَّسب، بناء على العلاماتِ التي يعرفُها القائف، وإلى هذا ذهب بعضُ العلماءِ كابن عباس وأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهم - وغيرهم.[65]

 

• وذهب الحنفيةُ والزيدية والإمامية إلى أنَّ معرفة النَّسبِ بالقيافة غيرُ مشروعٍ، فلا يُعملُ بقولِ القائف في هذا المجال.[66]

 

وقد احتجَّ الحنفيةُ لهذا بحديث: ((الولد للفراش))؛ أي: إنه يدلُّ على أنَّ طريقَ ثبوت النَّسب هو الفراشُ لا غير.

 

أمَّا الجمهور فقد احتجوا بعددٍ من الأدلة؛ منها: أنه ثبت أنَّ عمر - رضي الله عنه - عمل بالقيافةِ في محضرٍ من الصَّحابةِ من غير إنكارِ واحدٍ منهم، فكان إجماعًا.[67]

 

وأرجِّحُ ما ذهب إليه الجمهور؛ لقوة أدلتهم، ولأنَّ حديثَ الفراش لا يفيدُ الحصر.

 

المطلب الثالث: الاستلحاق أو الدعوة:

وهو دليلٌ ثالث من الأدلةِ الخاصة بإثبات النَّسب، ولا يكون هذا الدَّليلُ إلا في النَّسبِ المتعلِّقِ بأمهاتِ الأولاد، وهو أن يدعي السيدُ أنَّ ما ولدته أمَتُه منه، ويطلقُ عليه الحنفيةُ لفظ "الدعوة" أو "الدعوى".

 

وقد يفيد الاستلحاق معنى الإقرار على أنَّ الاستلحاق أو الإقرار في الجاهليةِ لم يكن في الغالبِ إلا فيما يتعلَّقُ بإلحاقِ النَّسب من أولادِ الإماء، ولم يأخذ بدليلِ الدعوة هذا في إثبات النَّسب إلا الحنفية دون أصحابِ المذاهب الأخرى[68].

 

والدعوةُ التي يقولُ بها الحنفية وبعضُ الفقهاء من غيرِ أصحاب المذاهب المدونة هي: استلحاق ولدِ المستولدة لتصبحَ فراشًا لسيدِها؛ أي: إنَّ الأم إذا أراد سيدُها أن تكون فراشًا له، فلا يكفي أن يقرَّ بوطئها، بل لا بدَّ أن تصاحبه الدعوة؛ أي: استلحاق هذا الولد، فلا يثبتُ الاستيلاء دون دعوة.

 

وقد رُوي عن أبي حنيفة والثوري أنَّ الأمَةَ لا يثبتُ فراشُها إلا بدعوةِ الولد، فإن لم يدعه كان مِلْكًا له.[69]

 

وقد ذهب الجمهورُ إلى أنَّه لا يعد في فراشِ الأمَة الدعوة؛ اعتمادًا على ظاهرِ الدَّليل، وهو حديث الفراش كما سبقت الإشارةُ إلى ذلك.

 

المطلب الرابع: الحمل:

وهو دليلٌ رابع من أدلةِ ثبوت النَّسب، وهو لا يكون إلا في المطلَّقاتِ؛ حيث إنَّ المطلقةَ ليست فراشًا، فقد زال الفراشُ بالطَّلاق.

 

المطلقة الرجعية: يثبت نسبُ المطلقة الرجعية إذا جاءت به لسنتين أو أكثر ما لم تقر بانقضاءِ عدتها، فإنْ أقرَّتْ بانقضاء عدتِها، ثم جاءت بولدٍ لا يثبت نسبُه، وهذا عند أبي حنيفة، أمَّا ثبوت نسب ولدِ الرجعية إذا جاءت به لأقل من سنتين فظاهرٌ، أمَّا ثبوته إذا جاءت به لأكثر منهما؛ فلاحتمال العُلوق في عدة الرَّجعيِّ، بأن امتدَّ إلى ما قبل سنتين من مجيئها به أو أقل، ثم وطئها فحملت.[70]

 

والمطلقة المبتوتة: يثبت نسبُ المطلقة المبتوتة إذا جاءت بولد لأقل من سنتين؛ لأنه يجوزُ كون الحمل كان قبل الطَّلاقِ فيثبت النَّسب، وإن جاءت به لتمامِ سنتين من وقت الفرقة لم يثبت نسبه لتيقنِ العلوق بعد البينونة، وقد قيل: إنه لو جاءت المبتوتة بولدين أحدهما لأقل من سنتين والآخر لأكثر من سنتين ثبت نسبُهما عند أبي حنيفة، وعند محمدٍ لا يثبت؛ لأنَّ الثاني من علوقٍ حادث بعد الإبانةِ، فيتبعه الأولُ؛ لأنهما توءمان[71].

 



لمطلب الخامس: القانون السعودي:

يرجع القضاة في المملكة العربية السعودية في حل المسائل المتعلقة بموضوع الأسرة إلى كتب المذهب الحنبلي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق